الخميس, 10 أغسطس 2023 12:20 م

متابعة/ المركز الخبري الوطني

افاد مركز الامارات للسياسات ان العراق سيتمكن على الأرجح من استثمار جزء من غازه بمساعدة الشركات الأجنبية، وقد يصل إلى الاكتفاء الذاتي بحلول عام 2030، لكن الزيادة السكانية المستمرة –أكثر من مليون نسمة كل عام– ستستهلك أغلب ما سينتجه العراق من غاز، مما يحد من فرص العراق من أن يكون مصدِّراً للغاز.   

وذكر تقرير تابعها / المركز الخبري الوطني/، ان الصراعات السياسية عطّلت توقيع جولة التراخيص الخامسة –التي تضم حقولاً نفطية وغازية– خمس سنوات كاملة، وستُعطل على الأغلب مشاريع استراتيجيةً أخرى في المستقبل. كما لا يزال الفساد المستشري في العراق عاملاً رئيسياً يحد من الاستثمار الأجنبي في قطاعاته الاقتصادية المختلفة بما في ذلك النفط والغاز.  
فيما يلي نص التقرير:  
صرّح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، خلال توقيع جولة التراخيص الخامسة التي اختصت بحقول نفطية وغازية في البلاد في شهر فبراير من العام الجاري (2023)، أن العراق سيحقق الاكتفاء الذاتي من الغاز خلال ثلاث سنوات ويدخل سوق الغاز العالمي كمصدِّر له. أثارت تصريحات السوداني ردود أفعال متباينة بين مُتحمس لها وبين مُشكّك في واقعيتها، ويبدو أن الحكومة العراقية قد تراجعت عن هذه الأمال الطموحة، ففي شهر مايو الماضي وقّع العراق مع إيران عقداً لتمديد استيراد الغاز الإيراني لخمس سنوات، وفي الشهر نفسه قال نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير النفط حيان عبد الغني في مقابلة صحفية إن العراق يخطط للاكتفاء الذاتي من الغاز في عام 2030، وهو ما يبدو أقرب إلى الواقع من تصريح السوداني المتفائل.  
تسلط هذه الورقة الضوء على محاولات العراق الاستثمار في قطاع الغاز، وفرص تحوله إلى دولة مصدّرة له.  
أزمة الغاز المزدوجة  
يعاني العراق من أزمة غاز مزدوجة منذ سنوات طويلة؛ فمن جهة يحلّ في المرتبة الـ 12 عالمياً في احتياطيات الغاز لكنه أنتج نحو 9 مليارات متر مكعب فقط في عام 2021 ، وهو ما يضعه في المرتبة الـ 40 عالمياً من حيث الإنتاج. وجزء من الغاز غير المستثمر –الجزء الآخر هو الغاز الطبيعي الحر- يخرج كناتج عرضي أثناء استخراج النفط. ويحرق نصف هذا الغاز –الذي يُسمى الغاز المصاحب- تقريباً لأن العراق لا يملك التقنيات المناسبة لاستثماره. ومن جهة أخرى، تعاقد العراق لاستيراد 72 توربيناً غازياً لإنتاج الكهرباء –وُزعت بين 16 محطة كهرباء بقيمة تتجاوز 10 مليارات دولار– من شركتي جنرال إلكتريك (جي إي) الأمريكية وسيمنز الألمانية في عام 2008. ومع دخول هذه المحطات للخدمة تباعاً ابتداءً من عام 2014، زادت حاجة العراق إلى الغاز، مما أدى الى إعتماد البلاد على الغاز الإيراني المستورد منذ عام 2017 والى اليوم، حيث بلغ مجموع ما أنفقه العراق على الغاز الإيراني نحو 20  مليار دولار على مدى 6 سنوات.  
وبينما نجح العراق عبر جولات التراخيص النفطية الأربع الموقعة مع شركات النفط الأجنبية، التي تهدف إلى زيادة إنتاج النفط والغاز العراقي منذ عام 2009، في خفض حرق الغاز إلى النصف بحلول عام 2023، فإن زيادة الاستهلاك المدفوعة بارتفاع عدد السكان أجبرت العراق على الاستمرار في الاعتماد على الغاز الإيراني. ونظراً لأن إيران تخضع لعقوبات أمريكية صارمة منذ انسحاب إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق النووي لعام 2015، فقد حصل العراق على استثناءات تُجدَّد دورياً من الحكومة الأمريكية تسمح له باستيراد الغاز والكهرباء من إيران وفق آليات دفع معقدة وبطيئة تتجنب الدفع بالدولار. كما ضغطت الحكومة الأمريكية على العراق للاستثمار الجدي في الغاز لإنهاء الاعتماد على الغاز الإيراني (خصوصاً بعد ارتفاع أسعار الغاز في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا). يُضاف الى ذلك، أنّ للغاز المحروق مضاعفات بيئية وصحية سلبية على حياة السكان في جنوب العراق وفي البصرة تحديداً.  
نتائج جولات التراخيص  
تُبين أرقام وزارتي التخطيط والنفط العراقيتين أن استثمار الغاز ارتفع من 10,4 مليار متر مكعب في عام 2002 إلى 14,8 مليار متر مكعب في عام 2020. هذه الزيادة المتواضعة –رغم الفرقعة الإعلامية لجولات التراخيص– رافقتها زيادة أكبر بكثير في كمية الغاز المحروق من 3,3 مليار متر مكعب إلى 14,1 مليار متر مكعب في الفترة نفسها. وبينما نجحت جولات التراخيص في مضاعفة إنتاج النفط العراقي تقريباً –إلى نحو 4,5 مليون برميل يومياً قبل جائحة كورونا- فإن هذا لم يتحقق في ملف الغاز إلا جزئياً وببطء. ويعزو تقرير رقابي حكومي عراقي هذا الفشل إلى عدم جدية وزارة النفط العراقية في الاستثمار في قطاع الغاز، حيث لم تتضمن جولة التراخيص الأولى أي مشروع غازي أو أي تفاصيل عن استثمار الغاز (المصاحب).[i]  
لم تحدد جولة التراخيص الثانية أي موعد محدد يُلزم الشركات باستثمار الغاز (المصاحب)، تاركةً الأمر لتقدير الشركات. ورغم أن الوزارة تعاقدت على مشاريع مسار سريع للاستثمار في الغاز، فإن هذه المشاريع لم تدخل الخدمة مثلما كان مخططاً لها، مثل حقل بازركان في العمارة الذي تديره شركة سينوك الصينية حتى نهاية 2014،  كما تأخر الاستثمار في حقول غاز الشمال أيضاً. وفي البصرة دخلت الحكومة العراقية عبر شركة غاز الجنوب في شراكة استثمارية مع شركتي شل المتعددة الجنسيات وميتسوبيشي اليابانية، حيث تأسست شركة غاز البصرة عام 2011، لكنها لم تبدأ الإنتاج إلا في عام 2013. [ii]  
وأدى افتقار العراق إلى شبكة أنابيب متكاملة لنقل الغاز المنتَج والمعالج إلى إهدار كميات تمت معاجلتها من الغاز، مثلما حدث عام 2014 عندما توقفت محطة كهرباء الزبيدية التي تعمل بالغاز المنتَج في حقل الأحدب عن العمل، مما أدّى إلى هدر كميات من الغاز لتعذر نقله إلى محطات اخرى. كما تعثرت مشاريع أخرى لاستثمار الغاز، مثل تأهيل كابسات الغاز Gas Compressor التابعة لشركة غاز الشمال، والتي نُصبت عام 1989 ولم تدخل الخدمة مطلقاً، ومرّ عقدان كاملان حتى تعاقد العراق مع شركة إماراتية لتأهيلها عام 2009، لكن العمل لم يُنجز.[iii] وإضافة إلى ما تقدم يفتقر العراق إلى منظومة عدّادات دقيقة وكافية لحساب الغاز المنتَج أو المستَهلك، سواء في مشاريع إنتاج الغاز أو في محطات إنتاج الكهرباء العاملة بالغاز، ويلجأ العاملون هناك في كثير من الأحيان إلى التقدير في حساب الكميات.  
التدخلات السياسية  
يُثير موضوع جولة التراخيص الخامسة الانتباه، لأن هذه الجولة أُعلن عنها في عام 2018 لكن العقود المترتبة عليها لم تُوقع نهائياً إلا في عام 2023 بسبب اتهامات متبادلة بالفساد بين نائب في البرلمان ومسؤولين في وزارة النفط، ما دعا رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى القول خلال حفل التوقيع النهائي لجولة التراخيص الخامسة في فبراير من هذا العام، إنّ هذه الجولة تعطلت لمدة 5 سنوات بسبب بلاغ من نائب في البرلمان شكّك في صحة إجراءاتها، وبعد تدقيق هيئة النزاهة والقضاء في الموضوع تبين أن الإجراءات سليمة، وأن العراق خسر ملايين الدولارات بسبب هذا التعطيل.[iv]  
ما يهم في هذا الصدد ليس الاتهامات المتبادلة التي تزخر بها الساحة السياسية العراقية بل ملاحظة أن قضية تعطيل جولة التراخيص الخامسة تشكل مثالاً ممتازاً للبطء القاتل الذي يميز العمل الحكومي في العراق، فقد تم تعطيل مشروع استراتيجي ظلّ لسنوات خمس متوقفاً دون حسم قضائي أو حكومي، وخلال هذه السنوات تعاقب على حكم البلاد أربع حكومات مختلفة وأربعة رؤساء وزراء!  
هذا المثال يوضح أسباب ابتعاد كثير من الشركات العالمية الكبرى عن ملف النفط العراقي، تاركةً المجال مفتوحاً لشركات أقل أهمية جاء كثير منها من الصين، كما أنه ينفي مزاعم الحكومة العراقية عن أهليّة البلاد لاستقطاب الاستثمار الأجنبي.  
هل هدف دخول العراق سوق الغاز العالمي كمُصدِّر واقعي؟  
تزايد الاهتمام الإقليمي والعالمي بالغاز العراقي خلال السنة الأخيرة، ووقّع العراق عدداً من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والعقود مع عدد من الشركات، مثل “توتال” الفرنسية و”أرامكو” السعودية بالإضافة إلى “بيكر هيوز” الأمريكية و”شل” العاملة منذ سنوات.  
ويرسم الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي سيناريوهاً متفائلاً بالقول إن: حاجة العراق الحالية من الغاز المستورد تبلغ 40 مليون متر مكعب يومياً… وعندما تُنجز مشاريع الغاز الحالية (وهي: مشروع استثمار غاز الناصرية بطاقة 5.6  مليون متر مكعب يومياً، ومشروع استثمار حقل الحلفاية بطاقة  8.4 مليون متر مكعب يومياً، ومشروع حقل أرطاوي في شركة غاز البصرة بطاقة  11.3مليون متر مكعب يومياً، ومشروع حقل أرطاوي في شركة غاز الجنوب بطاقة 8.4 مليون متر مكعب يومياً)، في غضون ثلاث إلى أربع سنوات فإن من المؤمّل أن يصل إنتاجها جميعاً إلى 33.9  مليون متر مكعب يومياً، مما سيؤدي إلى تحقيق نسبة 80% من الاكتفاء الذاتي من الغاز، بل إنّ بوسع العراق الوصول إلى فائض للتصدير قدره 19 مليون متر مكعب يومياً.  
وبينما يبدو هذا السيناريو الوردي واعداً، فإن التجربة العملية العراقية أثبتت في أغلب الأحيان أن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن. فهذا السيناريو يفترض استقراراً في الطلب العراقي المحلي على الغاز، في حين يتزايد سكان العراق بما لا يقل عن مليون نسمة كل سنة ومعهم يتزايد استهلاكهم للكهرباء. ففي عام 2003 أنتج العراق بسكانه البالغين 25 مليون نسمة حوالي 3 جيجاواط من الكهرباء. وقبل مرور عشر سنوات من ذلك التاريخ، وبالتحديد في عام 2012، أطلق نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون الطاقة حينها حسين الشهرستاني وعده الشهير بأن العراق سيصدّر الكهرباء في العام المقبل. وعندما حلّ هذا العام – 2013 – كان سكان العراق قد تجاوزوا الـ 35 مليون نسمة وزادت حاجتهم من الكهرباء إلى 17 جيجاواط، في حين لم يصل الإنتاج إلّا إلى نصف هذا الرقم تقريباً. وحينها أقر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بأن هناك خللاً في العقود التي وُقعت مع شركتي جنرال إلكترويك وسيمنز لإنشاء محطات الكهرباء الغازية. والجدير بالذكر أن الحكومة العراقية خططت في عام 2013 لاستثمار الغاز العراقي بحلول عام 2015، لكن ذلك لم يحدث.  
واليوم وبعد عشر سنوات أخرى بلغ سكان العراق 42 مليون نسمة، وتضاعفت حاجتهم من الكهرباء إلى نحو 35 جيجاواط، في حين بلغ الإنتاج في أقصاه نحو 23 جيجاواط ولا يزال العراق يخطط لاستغلال غازه المهدور. في الوقت نفسه، تتوقع وزارة التخطيط العراقية بأن يصل سكان العراق إلى 51 مليون نسمة في عام 2030، وهذا يعني –وبالاستناد إلى تجربة السنوات العشرين الماضية- أن الحاجة إلى الكهرباء ستزيد بنحو 20 جيجاواط على الأقل. وهذه الزيادة قد تمتص كل ما يتوقع المسؤولون العراقيون المتفائلون أن تنتجه البلاد من غاز.  
وقد تكون الصورة أقل قتامة إذا استطاعت الحكومة العراقية إقناع العراقيين بالحد من الزيادة السكانية –وهو أمر لم يسبق طرحه مطلقاً– أو ترشيد استهلاك الكهرباء، وهو ما فشلت به حتى الآن فشلاً ذريعاً.  
وهناك أمر آخر مرتبط بهذه القضية قد يؤثر سلباً على فرص الاستثمار الأجنبي في الغاز العراقي هو أن الشركات الأجنبية تطمح إلى تحقيق الربح عبر تسويق الغاز العراقي عالمياً، لكن هذا قد لا يتحقق مادام السوق العراقي سيستهلك الغاز المنتج وما دامت هناك أسعار مدعومة لشراء الغاز لصالح محطات الكهرباء العراقية.  
العامل الإيراني  
يَعتقد العديد من المراقبين أن إيران، وعبر حلفائها السياسيين وأذرعها السياسية المسلحة في العراق والتي تهيمن على الحكومة والبرلمان الحاليين، لن تسمح للعراق باستثمار غازه، لأن ذلك يتعارض مع المصلحة الإيرانية في بقاء العراق مستورداً للغاز الإيراني.  
وبينما يبدو هذا التحليل منطقياً، فإن الحقيقة قد تكون أكثر تعقيداً. فمن جهة تستهلك إيران نفسها غالبية الغاز المنتَج إلى الحد الذي تضطر فيه إلى إيقاف الصادرات للعراق أحياناً في أوقات الذروة في الشتاء والصيف، كما أن إيران تستورد الغاز أيضاً من تركمانستان لتزويد مناطقها الشمالية، وبخاصة في الشتاء. ومن جهة ثانية فإن آلية الدفع العراقي لثمن هذا الغاز، والمشروطة بالموافقات والاستثناءات الأمريكية من العقوبات، لا يمكن أن تكون عاملاً مشجعاً.  
ويبقى موضوع السعر الذي يستورد بموجبه العراق الغاز الإيراني، وهو يخضع بشكل عام لأسعار السوق، دافعاً لاستمرار تصديره إلى العراق، وأيضاً إلى تركيا التي تستورد الكمية نفسها تقريباً. وما هو مؤكد أن سعر بيع الغاز الإيراني إلى العراق –وتركيا– أفضل تجارياً من سعر استهلاكه المدعوم حكومياً في داخل إيران.  
وما يبدو مرجحاً أن إيران ترغب في استمرار أزمة الغاز في العراق التي تُشكل ورقة نفوذ إيراني تضاف إلى أوراق أخرى مثل العلاقة مع أحزاب “الإطار التنسيقي” وأجنحتها المسلحة، لكن هذا لم يمنع الحكومة العراقية، الأقرب إلى إيران منذ عام 2003، من طرح استثمار الغاز كأولوية، بما في ذلك توقيع جولة التراخيص الخامسة والإعلان عن الجولة السادسة، وتوقيع الاتفاق الضخم مع شركتي “توتال” الفرنسية و”قطر للطاقة” بقيمة 27 مليار دولار.  
استنتاجات  
يعاني العراق من أزمة نقص في إمدادات الغاز –الذي يُستخدم في محطات توليد الطاقة الكهربائية– مما أدى الى اعتماده بشكل كبير على استيراده من إيران.  
بدأ العراق بالاهتمام بموضوع استثمار الغاز المصاحب –الذي يُحرق أثناء استخراج النفط– والغاز الطبيعي منذ توقيع جولات التراخيص قبل 14 سنة، في حين لم تتجاوز الزيادة في إنتاج الغاز العراقي أكثر من 50% خلال 18 سنة.  
عطلت الصراعات السياسية توقيع جولة التراخيص الخامسة –التي تضم حقولاً نفطية وغازية– خمس سنوات كاملة، وستُعطل على الأغلب مشاريع استراتيجيةً أخرى في المستقبل. كما لا يزال الفساد المستشري في العراق عاملاً رئيسياً يحد من الاستثمار الأجنبي في قطاعاته الاقتصادية المختلفة بما في ذلك النفط والغاز.  
لإيران مصلحة في استمرار اعتماد العراق على الغاز الإيراني، لكن هذا لم يمنع العراق من السعي إلى إنهاء هذا الاعتماد.  
سيتمكن العراق على الأرجح من استثمار جزء من غازه بمساعدة الشركات الأجنبية، وقد يصل إلى الاكتفاء الذاتي بحلول عام 2030، لكن الزيادة السكانية المستمرة –أكثر من مليون نسمة كل عام– ستستهلك أغلب ما سينتجه العراق من غاز، مما يحد من فرص العراق من أن يكون مصدِّراً للغاز.