السبت, 2 نوفمبر 2019 5:59 م


‎بغداد/المركز الخبري الوطني

بعد مضي شهر كامل على انطلاق حركة التظاهر وما اعقبها من اندلاع احتجاجات شعبية عارمة في بغداد ومدن وسط وجنوب العراق، حذرت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف وبعبارات واضحة من احتمالية نشوب اقتتال داخلي وبالتالي إنزلاق البلد الى فوضى الإنهيار، وتأتي تحذيرات المرجعية على خلفية سقوط نحو ٢٥٣ شهيد و اكثر من ١١ الف جريح و مئات المفقودين والمعتقلين ! هي حصيلة الحراك الشعبي الممتد على شهر تشرين أول الماضي، والذي أصاب العملية السياسية بشلل كبير وأدخلها نفقا مظلما، وسط اشتداد المناكفات بين الأطراف المتحكمة بالمشهد السياسي، واختلاف مواقفها أزاء ما يجري، دون السعي للبحث عن حلول ناجعة كفيلة بتلبية مطالب المتظاهرين ومن خلالها تصحيح مسار العملية السياسية برمتها.

بين السلمية والتصعيد

انطلقت التظاهرات في الأول من تشرين الأول الماضي بشكل متواضع و عفوي لم تتعدى في بادئ الأمر قرابة ال ٣٠٠ متظاهر رافعين شعارات تطالب بتحسين الخدمات العامة وإيجاد فرص عمل ومحاكمة الفاسدين، إلا أن لجوء قوات الأمن الى استخدام القوة المفرطة أدى الى استشهاد شخص و جرح المئات. في اليوم التالي عاد المتظاهرون بأعداد أكبر فتصدت لهم القوات الأمنية بشكل اعنف من ذي قبل حتى بلغ عدد الضحايا خلال أربعة أيام نحو 165 شهيدا وآلاف الجرحى بينهم عناصر من قوات الأمن بحسب مصادر حكومية. عمت التظاهرات العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب مثل الحلة والنجف والناصرية والعمارة والبصرة.

أن لجوء القوات الحكومية لاستخدام القوة المفرطة في محاولة قمع التظاهرات أدى الى زيادة حدة الاحتجاجات الشعبية وتجدد التظاهرات الحاشدة فور انتهاء الزيارة الاربعينية، لتأخذ منحى جديدا وخطيرا تمثل بإرتفاع سقف المطالب لتشمل الدعوة الى الغاء الدستور وتغيير النظام السياسي واستقالة الحكومة وتحويل نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، فضلا على رفض وحل الأحزاب الحاكمة.

الملاحظ ان تعاطف الشارع العراقي مع ضحايا التظاهرات والمطالب المرفوعة حول ساحات التظاهر الى مراكز للإعتصام الشعبي مما أضفى عليها أجواء احتفالية هي أقرب الى كرنفالات فرح وابتهاج بهذا الحراك غير المسبوق.

وتوالت بيانات الدعم والمؤازرة لهم من قبل العشائر والنقابات والشخصيات الدينية وفي مقدمتها المرجعية العليا في النجف الأشرف والعتبات العلوية والحسينية والعباسية، كما دعمت العوائل العراقية المتظاهرين بالمواد الغذائية والمياه والاغطية والأدوية والمستلزمات الطبية ومواد الأسعافات الأولية، وساهم التجار ورجال الاعمال واصحاب المحال بالتبرع لمراكز الإعتصام وحشود المتظاهرين بمتطلبات ادامة الزخم اليومي، في حين سارعت الفرق الطبية وطلبة كليات الطب والصيدلة لمعالجة الجرحى وتقديم الاسعافات الأولية للمصابين، كما ساهم بشكل فعال أصحاب العربات الشعبية الصغيرة المسماة بال(تك تك) في نقل الجرحى والمصابين بخالات الاختناق جراء استخدام القنابل المسيلة للدموع الى المراكز الصحية والمستشفيات القريبة الى جانب نقل المتظاهرين من والى ساحات الاعتصام وشحن المواد الغذائية والتبرعات السلعية الى خيم المعتصمين.

التطور اللافت الذي رافق مسيرة التظاهرات يوم 27 تشرين أول وبالرغم من سقوط العديد من الضحايا تكرار مشاهد إنطلاق حشود طلابية هائلة غادرت كلياتها وجامعاتها و مدارسها وفي عموم مدن وسط وجنوب العراق صوب مراكز الاعتصام تعبيرا عن تضامن الاوساط الطلابية مع المتظاهرين من جانب والتعبير عن استنكارها لسقوط ضحايا من المدنيين واعلان تعاطفها مع أسرهم.

تباين مواقف القوى السياسية

كالعادة فقد وجدت القوى السياسية نفسها ومنذ اليوم الاول لاندلاع التظاهرات على طرفي نقيض. قوى سياسية داعمة وتقف الى جانب المتظاهرين، وآخرى تقف بالضد معتبرة التظاهرات ماهي إلا مؤامرة دولية وإقليمية على العراق ونظام الحكم وترى بأن الحراك الجديد مدفوع الثمن وممول من الخارج.

اختلاف القوى السياسية هذه المرة اضعف موقف الحكومة في التعامل مع الأزمة، مما دفعها الى أتخاذ إجراءات سريعة و قرارات اسرع في محاولة لإمتصاص غضب الشارع على خلفية سقوط الاف الضحايا من المدنيين بحسب مصادر مسؤولة، لكنها كانت تدرك بأن أجراءاتها جاءت متأخرة ولم تمنع المتظاهرين من رفع سقف المطالب. و سارع مجلس النواب بإصدار قرارات غير ملزمة على الحكومة و اعتبرها البعض غير دستورية و صادقت على الإصلاحات التي تبنتها الحكومة من خطوات و التي لم تحظى بتآيد كبير من المتظاهرين.

ومع أستمرار توتر الأوضاع أعلن السيد مقتدى الصدر دعمه للتظاهرات مطالبا الحكومة بالاستقالة واجراء انتخابات جديدة عاجلة، لكن رئيس الحكومة رد على الفور رافضا فكرة التخلي عن المسؤولية في محاولة لدفع الكرة الى ملعب في القيادات السياسية لإيجاد بديل عنه قبل ان يتنحى عن المنصب

ومع هذا التطور الجديد اندفعت القوى السياسية في ماراثون الاجتماعات المكوكية بينها تارة ومع الرئاسات الثلاث تارة آخرى. رئيس الجمهورية من جانبه عقد سلسة اجتماعات مع القوى الفاعلة في الساحة السياسية ومن بينها القوى الشيعية الكبرى يوم 30 تشرين الأول والذي انقسم فيه المجتمعون بين مؤيد لبقاء الحكومة الحالية و المتمثلة بدولة القانون والفتح والحكمة و العطاء و الفضيلة ومعارض لبقاء الحكومة وهما التيار الصدري والنصر.

في حين انقسمت القوى السنية هي الأخرى بين معارض متمثلة بكتلة اتحاد القوى ومؤيد كجبهة الإنقاذ والتنمية، اما الكتل الكوردية بشكل عام مع بقاء الحكومة الحالية مع إجراء الإصلاحات التي يطالب بها المتظاهرون.

وبذلك وصلت القوى السياسية الى طريق مسدود بعد ان عجزت عن إيجاد حل يرضي جميع الأطراف.

النجف تدخل على خط الأزمة

عمد المتظاهرون منذ الأسبوع الأول لشهر تشرين الاول الى مناشدة المرجعية الدينية في النجف الأشرف لدعم مطالبهم، فكانت الإستجابة سريعة حيث حملت خطبة يوم الجمعة الرابع من تشرين الاول مناشدة واضحة وصريحة للجميع بضبط النفس و عدم استخدام القوة من كلا الطرفين، لكن تطورا لافتا في موقفها تمثل في تصعيد خطابها المتعارف عليه يوم الحادي عشر من تشرين الأول بقولها ( إن الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية، سواء من المواطنين الأبرياء أو من العناصر الأمنية المكلفة بالتعامل معها، وليس بوسعها التنصل عن تحمل هذه المسؤولية الكبيرة ). بل واضافت ( هي مسؤولة عندما تقوم عناصر مسلحة خارجة عن القانون ـ تحت انظار قوى الأمن ـ باستهداف المتظاهرين وقنصهم، وتعتدي على وسائل اعلام معينة بهدف إرعاب العاملين فيها ) مصعدة من لهجتها بإدانة أداء الحكومة بقولها ( وانّ المرجعية الدينية إذ تدين بشدة ما جرى من إراقة للدماء البريئة واعتداءات جسيمة بمختلف اشكالها).

وبحسب رأي جميع المراقبين فأن المرجعية حملت الحكومة والقوى السياسية مسؤولية ماحصل ويحصل واتهمت جهات لم تسميها بقمع المتظاهرين “تحت انظار قوى الامن” أي السلطات الأمنية ولم تخفي استياءها من الوضع السياسي الحالي عند مطالبتها بإيجاد حلول تحت سقف الدستور والقانون.

عادت المرجعية لتطلب على نحو لايقبل التأويل من القوى الإقليمية والدولية عدم التدخل في الشأن العراقي عندما أكدت في خطبتها يوم الأول من تشرين الثاني ( وليس لأي شخص أو مجموعة أو جهة بتوجه معين أو أي طرف اقليمي أو دولي أن يصادر ارادة العراقيين في ذلك ويفرض رأيه عليهم ). بل وحذرت القوى السياسية من ( انزلاق البلد الى مهاوي الاقتتال الداخلي والفوضى والخراب) !!

هذا التحذير مهم بحد ذاته والذي بات يشكل نقطة التقاء بين المراقبين السياسيين ومخاوفهم من انهيار اوضاع البلاد برمتها وبين رؤية المرجعية الدينية لما سيحصل في حال عدم تدارك اسباب الأزمة.

منع الفوضى و الانزلاق الى الهاوية

هناك حقيقة لا يختلف عليها اثنان وهي ان بقاء الأزمة بوضعها الراهن واستمرار اراقة المزيد من الدماء وتعطل مصالح البلاد جراء تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية مقابل أصرار الحكومة على استعمال العنف لإخمادها، فأن ذلك يعني بأننا ماضون الى ماحذرت منه المرجعية والمراقبون على حد سواء، لذلك يتوجب على جميع الأطراف السعي بجدية لإيجاد حلول سريعة و فاعلة كفيلة بالخروج من الازمة التي تعصف بالجميع.

بالمقابل طرحت عدة سيناريوهات للخروج من الازمة الحالية والتي تتشابه بالخطوط العمومية وتختلف في الجزئيات و أولوية الخطوات الواجب اتباعها، لكن معظمها يشترك في الدعوة لإجراء تعديل على قانوني الانتخابات، والمفوضية العليا للانتخابات وتعديل الدستور ومحاسبة الفاسدين، والمباشرة بإجراء الإصلاحات الإدارية، في حين تختلف حيال المطالبة بإقالة الحكومة واجراء إنتخابات مبكرة تحت اشراف الأمم المتحدة، وحصر السلاح بيد الدولة وهو إشارة واضحة لتحديد مستقبل الحشد الشعبي والفصائل المسلحة.

وثمة خلاف كبير بين اللاعبين الأساسيين حول الجانب التنفيذي للإصلاحات و التغيير المنشود، حيث ان المتظاهرين يرفضون قيام القوى السياسية الحالية بهذه الإجراءات و يطلبون تشكيل لجان خارج العملية السياسية أعضاءها يتمتعون بالمهنية والاستقلالية، هذه المطالب تم رفضها من قبل القوى السياسية لانها تعتبر وجودها شرعي ودستوري وبلغت السلطة عبر صناديق الاقتراع، على الرغم من ضآلة حجم المشاركة الشعبية في الإنتخابات الأخيرة، لذلك ثمة فجوة كبيرة بين طرفي الحاكم والمحكوم حيال من يتولى طرح الحلول ويتبنى تنفيذها.

نرى بأن السبيل الأمثل للخروج من عنق الزجاجة يتمثل بالركون الى تشكيل لجنة محايدة من الحكماء تضم خبراء وأكاديميين وباحثين ومراقبين سياسيين تكون مهمتها البحث في ايجاد قاسم مشترك لمجمل الأفكار والحلول المطروحة يضمن الوصول الى خارطة طريق مشتركة يتفق عليها الجميع تمهيدا لطرحها على الطرفين من محتجين وسلطات حاكمة. على أن يتم ترجمة هذه الخارطة على ارض الواقع بالتنسيق مع المجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

أخيرا لابد من التأكيد على دعوة جميع القوى السياسية بصرف النظر عن حجم تمثيلها بنظام الحكم القائم لتفهم دواع واسباب الحراك القائم والتفاعل بإيجابية مع مطالب المحتجين لكونها تمثل نتيجة حتمية للتراكمات السلبية في ادارة الدولة. ولنا في تجارب التاريخ المعاصر على الأقل مايدفعنا لإتخاذ مواقف وطنية مسؤولة تكفل للجميع سلامة البلاد والحفاظ على مصالحها العليا وأعادة الأمن والاستقرار، والشروع من جديد بحركة نهوض شاملة تكفل المستقبل الواعد للاجيال المنتفضة وتلك التي تنتظر دورها للانتفاض في حال بقاء الوضع على ماهو عليه، هذا مالم يفقد الجميع زمام السيطرة والانزلاق بالتالي الى مهاوي الانهيار والفوضى والاقتتال الداخلي الذي لو اندلع لا احد يمكنه التكهن بن

* رئيس المجلس الاستشاري العراقي