السبت, 6 أغسطس 2022 7:10 م

د. محمد القريشي

رحل الإمام الحسين “ع” شهيداً وترك خلفه آلاماً وأحزاناً وشجوناً تشكل جمرة في
أعماق المسلمين، تتوهج كل عام بذاكرة المحنة ورمزيات البطولة .. ولكن ما دلالات هذه الذاكرة ؟؟ وما أهميتها ؟؟

الحديث عن الطقوس والذاكرة، يعني الحديث عن واقع مجتمعي يتّسم بالتغيّر السريع (كأي مجتمع متحرك زمنياً)، ولكنه يشهد في الوقت ذاته زخماً عاطفياً في فترات معينة يكتسب الوقت خلالها (معنى).
وهذا (المعنى) بالذات هو أهم تجليات ثورة الحسين “ع”،
المجتمعات التي تُمارس طقوسها بانتظام يكون الزمن فيها معاشاً وفق إيقاعات وأشكال من التحقيب، يختلف فيها الزمن الفردي (عيد الميلاد، الزواج…) عن الزمن الجماعي، من خلال اكتساب الأخير دلالات موحـدَةً للجماعة، ومؤثرة في صنع هويتها الخاصة.

يعد التكرار والتجدد من أهم مميزات الطقوس التي يمارس فيها أعضاء الجماعة نشاطاتهم، لإحياء أحداث جرت في الماضي، ولكنها تشبع في الحاضر حاجات الجماعة (روحياً وهوياتياً) من خلال : الشحن الرّمزي والتطور..
بفضل الطقوس يتمّ شحن الزمن بالقداسة، واستحضار الذاكرة بما يناسب خيال الجماعة وإرثها الثقافي بواسطة السرديات والحركات والفنون، ويساعد هذا الاستحضار الاستعراضي في تثبيت أحداث ملهمة رمزياً، وإحيائها في حياة الجماعة والأفراد وتحويلها إلى رافد هام من روافد الذاكرة الجماعية الممتلئة بالرمز والمعنى، وتمكّن الطقوس المنخرطين في ممارستها من العيش في زمنين متلازمين : زمن ماضوي متخيّل، وزمن  فيزيائي حقيقي، يهيمن خلالها الأول على الثاني مرحلياً، وينشط العقل الجماعي بين ثناياها في ابتكار آليات متجددة لإدامتها، خلال مدة الطقوس لا تتلاقى الأزمنة فقط في محطة واحدة، (فللمكان) كذلك منزلته في هذه الظروف ورمزيته.

تتم ممارسة الطقس عادة ضمن أطر مكانيّة محددة كما يحدث في أربعينية الحسين “ع” وركضة طويريج، حين تشكل الطرقات والمدن والمراقد محطات تلتقي فيها الأزمنة (المتخيلة والفيزيائية)، ويدور بين أركانها وما حولها الأفراد والمشاعر، وتؤدي بمجملها إلى توهج (المعنى) وإنعاش (الذاكرة)، أو إثراء تفاصيلها !!

يميز الفيلسوف الفرنسي بيركاسون بين مفهومين للوقت متناقضين : يتعلق الأول بالزمن الفيزيائي (أو الزمن الاجتماعي)، والثاني الزمن المقدس، حيث يكون الأول خطياً وغير قابل للتكرار، ويقود إلى الفقدان أو الموت أو الخسارة، ويكون الثاني (الزمن المقدس) محوراً تدور حوله الأحداث التاريخية والأشخاص الذين ينجزون أعمالاً خارقة.

هذا الزمن هو الذي يعيشه الناس في إحيائهم لذاكرة الثورة الحسينية المتجددة في كل عام حين تنكسر انسيابية الزمن الفيزيائي المألوف بوقفات (مناسبات متكررة) “يُـتزوّد” فيها المحبون بشحنات (المعنى والقيم)، ويتم خلالها كسر الرتابة التي يفرضها عليهم الزمن اليومي المعتاد.

ولكن هل تتحدد ممارسات الطقوس (بالمعنى فقط)، أم تتجاوزه لتحويل (المعنى) إلى (قيمة) مادية (فعل سياسي . فعل أنساني . فعل أجتماعي .. وغير ذلك)، تؤثر في حاضر الجماعة ومستقبلها ؟؟؟؟
هذا هو التحدي الكبير …!!!
الجواب هنا : نعم .. استطاع أتباع الحسين “ع” على سبيل المثال في مراحل معينة من مسيرتهم الزمنية المعاصرة من تحويل (المعنى) إلى فعل ظهر في مناسبات عدة : في ثورة العشرين خلال القرن الماضي، وفي الصراع الوجودي مع عصابات داعش وإنقاذ الوطن قبل أعوام، وفي تضامن سكان مدن الوسط والجنوب لإغاثة المهجرين من مدن وبلدات الشمال بعد الغزو الداعشي دون النظر إلى طوائفهم وأديانهم.

ولا بد ان نذكر في هذا المجال بأن توظيف (المعنى) في صناعة “الحدث المفيد” هو أقل بكثير من زخم (المعنى) الذي تضخه ذاكرة الحدث الحسيني في كل عام؛ بسبب ضعف التنمية والفقر في مجتمعات الشيعة، وانتشار الفساد في إدارة الدول، وتدافع الهويات الفرعية مع الهويات الوطنية.

إن التحدي الكبير الذي ينتظر اتباع الحسين “ع” لا يكمن فقط في تركيز “وجودهم الهوياتي” في الأوطان التي يعيشون فيها، ولا في (البقاء على قيد الحياة) عندما يتعرضون إلى تهديد وجودي، بل في تحويل (المعنى) إلى (فعل حاسم جذرياً)، وتوظيف “الهوية” كرافعة للدولة، والقفز من حالة (المراوحة في الحياة) إلى حالة (صنع حياة أفضل).

إن النجاح في هذا التحدي يمثل التجسيد الأفضل لقيم الثورة الحسينية، والضمانة الحقيقية لصنع مواطن متصالح مع نفسه وبيئته وماضيه وحاضره، ومع “الرمز” بطبيعة الحال، الرمز الذي أُثخنت “جراحات ذاكرته” بفساد الاتباع وصراعاتهم على المال العام في الحاضر، أكثر مما أُثخنت بسيوف قاتليه في الماضي!، تحويل “المعنى” إلى “فعل حاسم”، يعني مادياً تراجع معدلات الفقر، وحضور الرفاهية في ربوع الوطن وارتفاع مستويات الوعي والتعليم، وجعل “الهوية” في خدمة الدولة من خلال الاصطفاف بين أفراد “الجماعة الوطنية” والعيش تحت خيمة “الدولة”.
—– انتهى —–