الجمعة, 6 مايو 2022 9:35 م
جعفر الحسيني
باستثناء الملك فيصل الاول ، فان ( مشروع الدولة ) كان غائباً عن الحكومات و الانظمة المتعاقبة في العراق ٠ بل انها لم تَأْلُ جهدا في اعاقته ، او ان سلوكها السلطوي فاقم الاشكالات في طريقه ٠
وقبل أن نمضي في الحديث ، لابد من التأكيد بأن لاقيمة لاية انجازات مادية لاي نظامٍ ، في غياب مشروع الدولة ٠ فتلك الانجازات او اغلبها لاتلبث ان تفقد قيمتها بعد عقد او بضعة عقود ٠ اما اقامة دولة حديثة تنتقل فيها السلطة بشكل سلمي سلس ، فهو الذي يضمن مستقبل البلد ، وتقدمه ، ووحدته ٠
فاقامة دولة قوية مستقرة ، هو الهدف الذي تنشده السياسة في كل زمان ومكان ، والذي لو قُدر له ان يتحقق ، لبرر او بالاحرى لهون اخطاء او خطايا مَن تحقق على يديه هذا الانجاز التاريخي العظيم ٠
ومع الاشارة الى أن مشروع الملك فيصل الاول لم يرَّ النور ، وتأسست دولة وصفها هو نفسه في مذكرته الشهيرة قائلا : ( العراق مملكة تحكمه حكومة عربية سنية تحكم قسما كردياً وأكثرية شيعية … الخ ) (البزاز . العراق من الاحتلال الى الاستقلال ص 231 ) . فللاسف انه مات مبكرا ( ٥٠ عاما ) ٠ ولو قُدر له أن يعيش لكنا – ربما – أمام عراق آخر ٠ فخلفه ابنه غازي ملكاً على العراق ، ولم يكن قد بلغ الثانية والعشرين ، وكان ينقصه – رغم مشاعره الوطنية المتدفقة – دهاء القيادة وحنكتها ، منغمسا في ملذاته الى حد الاسراف ٠ ثم قُتل – في ٤ نيسان ١٩٣٩ – بحادث سيارة مُدبر ، بسبب مواقفه من القضية الفلسطينية ، ومطالبته بالكويت ، ومغازلته لالمانيا وايطاليا ٠
فخلفه عبد الاله بن علي ( ٢٧ سنه ) وصيا على العرش ، لان الملك فيصل الثاني لم يتجاوز الرابعة ٠ والحقيقة ان عبد الاله كان آخر مَن يصلح لقيادة العراق في مثل تلك الظروف الدوليه الخطيرة ( الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة فيما بعد ثم انبعاث الناصرية )٠ ففضلا عن انه كان موظفا بسيطا بوزارة الخارجيه ( اي بلا خبرة ) ، وفاشلا دراسيا ، وجاهلا بالشؤون العراقيه ، لم يكن رجل سياسة بل رجلا عاديا مغرما بسباق الخيل ومسرفا في الشراب ٠ وقد قضى سنوات حكمه ( نصفها في ملاحقة رجال حركة مايس والانتقام منهم ، ونصفها الاخر في ملاحقة الشيوعيين والتنكيل بهم ) ٠
وللاسف ان ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ ، هي الاخرى فشلت في بناء دولة عراقية حديثة ٠ فظلت الدولة العراقية ، عثمانية التفكير والروح والاساليب ، اي ظلت ( دولة ضد مجتمعها ) ٠ الامر الذي فاقم أزمة الكيان العراقي ، فانتهت الى ما انتهت اليه على يد صدام ثم الاحتلال الامريكي ٠
ان كل الانجازات السياسية والاجتماعية والاقتصاديه التي قام بها الضباط الاحرار – ومنها انجازات كبرى – ظلت انجازات فوقية ، وفقدت قيمتها مع مرور الزمن ٠ الانكى من هذا انهم وقد حطموا الدولة القديمة التي كانت قائمة ، وفشلوا في بناء دولة حديثة محلها ، كانت أُولى نتائج ذلك : انطلاق الثورة الكردية ، وتصاعد الانقسام الطائفي ، وانفلات الصراع السياسي ( ماحدث عام ١٩٥٩ ، ثم ١٩٦٣ مثالا ) ٠
وكانت أول خطوة على طريق تهديم الدولة ، هي تغيير العلم ( هذه العادة السيئة التي حولته من الرمز الوطني الاول الذي يلتف الشعب حوله – في السراء والضراء – الى علم النظام الحاكم ٠ مع الاشارة الى أن اتاتورك ورغم انقلابه على كل ماهو عثماني ، فانه ابقى على الراية الوطنية ) ٠ وكانت النتيجة المؤسفة لهذا العمل الاحمق ، اننا البلد الوحيد في المنطقة – وربما ايضا في العالم – الذي غير علمه خمس مرات ، وها نحن – حتى هذه اللحظة – لم نتفق على رايتنا الوطنية ٠ ومما يتصل بهذا ايضا اننا البلد الوحيد في العالم ، الذي لا يملك عيدا وطنيا ، فلازلنا غير متفقين على تحديد العيد الوطني ٠ وهكذا تم العبث بكل الرموز الوطنية التي توحد الشعب وتربط بين اجياله المتعاقبه وتعزز ذاكرته الجمعية ٠
لقد اعتبر الضباط الاحرار ثورتهم ، والبعثيون انقلابهم ، نهاية التاريخ ، وبالتالي فان كل شيء في الدولة ، يجب ان يرتبط بهذا الحدث ، أو يُعبر عنه ، ونسوا ان الوطن أبقى من الثورات والحكام ٠ وان اي ثورة – مهما كانت عظيمة – لا تلبث ان تصبح حدثا في التاريخ ، تأتي وراءه احداث واحداث ٠ وهكذا تمزق العراق على ايديهم ٠
ثم جاء الاحتلال الامريكي ، وحلت المكونات محل الشعب ، والطائفة محل الوطن ٠ وصرنا نختلف حول كل شيء ٠
ان مستقبل العراق مرهون ببناء دولته الوطنية الحديثة ، والتي تقوم على ثلاثة اسس : الالتزام بالدستور ، وسيادة القانون ، وتحقيق المساواة ٠ وعلى ذكر الدستور ، فان مشروع الدولة قد غاب تماما ، عند كتابة الدستور الحالي ، فاصابه تشوه كبير ، حتى يمكن القول انه زاد النظام السياسي الحالي تشوها على تشوه ٠ ورغم ذلك فلابد من الالتزام بالدستور ، علَّنا نستطيع يوماً تعديله .